الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
جَمْعُ شَهَادَةٍ مَصْدَرُ شَهِدَ، مِنْ الشُّهُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّهَادَةُ خَبَرٌ قَاطِعٌ وَالشَّاهِدُ حَامِلُ الشَّهَادَةِ وَمُؤَدِّيهَا؛ لِأَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِعْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ} أَيْ أَعْلَمَ وَبَيَّنَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} وَهُوَ أَمْرُ إرْشَادٍ، لَا وُجُوبٍ وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {لَيْسَ لَك إلَّا شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ} وَخَبَرُ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ: تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ} رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ. وَأَمَّا خَبَرُ: {أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَدْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ} فَضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
المتن: وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: شَاهِدٌ، وَمَشْهُودٌ لَهُ، وَمَشْهُودٌ عَلَيْهِ، وَمَشْهُودٌ بِهِ، وَصِيغَةٌ، وَكُلُّهَا تُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
الشَّرْحُ: وَقَدْ بَدَأَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ (شَرْطُ الشَّاهِدِ) أَيْ شُرُوطُهُ (مُسْلِمٌ) وَلَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَبُولِهِ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ، وَلِأَحْمَدَ فِي الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَلَيْسَ مِنَّا وَلِأَنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُؤْمَنُ الْكَذِبُ مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ. (حُرٌّ) وَلَوْ بِالدَّارِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَقِيقٍ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَلَوْ مُبَعَّضًا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ فِيهِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَهُوَ مَسْلُوبٌ مِنْهَا.
المتن: مُكَلَّفٌ
الشَّرْحُ: (مُكَلَّفٌ) فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا صَبِيٍّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا: الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ.
المتن: عَدْلٌ
الشَّرْحُ: (عَدْلٌ) فَلَا تُقْبَلُ مِنْ فَاسِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.
المتن: ذُو مُرُوءَةٍ
الشَّرْحُ: (ذُو مُرُوءَةٍ) بِالْهَمْزِ بِوَزْنِ سُهُولَةٍ، وَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ لَا حَيَاءَ لَهُ، وَمَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ قَالَ مَا شَاءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت} وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا.
المتن: غَيْرُ مُتَّهَمٍ.
الشَّرْحُ: (غَيْرُ مُتَّهَمٍ) فِي شَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وَالرِّيبَةُ حَاصِلَةٌ بِالتُّهَمِ وَلِمَا رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ذِي الظِّنَّةِ وَلَا ذِي الْحِنَّةِ} وَالظِّنَّةُ: التُّهْمَةُ، وَالْحِنَّةُ: الْعَدَاوَةُ. تَنْبِيهٌ: بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ شُرُوطٌ لَمْ يَذْكُرْهَا مِنْهَا أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ يَقِظًا كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَالْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ قُبَيْلَ فَصْلِ التَّوْبَةِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ.
المتن: وَشَرْطُ الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ.
الشَّرْحُ: (وَشَرْطُ) تَحَقُّقِ (الْعَدَالَةِ) وَهِيَ لُغَةً التَّوَسُّطُ، وَشَرْعًا (اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ) أَيْ كُلٍّ مِنْهَا (وَ) اجْتِنَابُ (الْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ) مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ، وَفَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْكَبِيرَةَ بِأَنَّهَا: مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقِيلَ: هِيَ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ، وَيَذْكُرُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمِيلُ، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ ا هـ. ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا الرِّبَا وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ، وَلَا حَدَّ فِيهَا، وَقَالَ الْإِمَامُ: هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ. ا هـ. وَالْمُرَادُ بِهَا بِقَرِينَةِ التَّعَارِيفِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْكَبَائِرِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَعُ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِهَا مَا لَمْ نُكَفِّرْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، هَذَا ضَبْطُهَا بِالْحَدِّ وَأَمَّا بِالْعَدِّ فَأَشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّهَا إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ، أَيْ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي فَمِنْ الصَّغَائِرِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ، فَمِنْ الْأَوَّلِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِلَا عُذْرٍ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمْنُ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالزِّنَا، وَاللِّوَاطُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَإِنْ قَلَّ، وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ، وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا يَبْلُغُ رُبُعَ مِثْقَالٍ كَمَا يُقْطَعُ بِهِ فِي السَّرِقَةِ، وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ، وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا وَسَبُّ الصَّحَابَةِ، وَأَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَالنَّمِيمَةُ وَأَمَّا الْغِيبَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَإِلَّا فَصَغِيرَةٌ وَمِنْ الصَّغَائِرِ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ، وَكَذِبٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَهَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ إلَّا إنْ رَاعَى حَقَّ الشَّرْعِ فِيهَا، وَالضَّحِكُ فِي الصَّلَاةِ وَالنِّيَاحَةُ، وَشَقُّ الْجَيْبِ فِي الْمُصِيبَةِ. وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْفُسَّاقِ إينَاسًا لَهُمْ، وَإِدْخَالُ مَجَانِينَ وَصِبْيَانٍ وَنَجَاسَةٍ يَغْلِبُ تَنْجِيسُهُمْ الْمَسْجِدَ، وَاسْتِعْمَالُ نَجَاسَةٍ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَبِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، أَوْ إصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ تَنْتَفِي الْعَدَالَةُ. إلَّا أَنْ تَغْلِبَ طَاعَتُهُ مَعَاصِيهِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ فَلَا تَنْتَفِي عَدَالَتُهُ وَإِنْ اقْتَضَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ الِانْتِفَاءَ مُطْلَقًا. تَنْبِيهٌ: عَطْفُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْإِصْرَارَ كَبِيرَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ كَمَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تَصِيرُ بِالْمُوَاظَبَةِ كُفْرًا فَائِدَةٌ: فِي الْبَحْرِ: لَوْ نَوَى الْعَدْلُ فِعْلَ كَبِيرَةٍ غَدًا كَزِنًا لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ فَاسِقًا بِخِلَافِ نِيَّةِ الْكُفْرِ.
المتن: وَيَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُكْرَهُ بِشِطْرَنْجٍ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَقِمَارٌ.
الشَّرْحُ: (وَيَحْرُمُ) (اللَّعِبُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ (بِالنَّرْدِ) (عَلَى الصَّحِيحِ) لِخَبَرِ {مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَهُوَ عَلَى هَذَا صَغِيرَةٌ (وَ) الثَّانِي: يُكْرَهُ كَمَا (يُكْرَهُ بِشِطْرَنْجٍ) وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ، وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ مُعْجَمًا وَمُهْمَلًا وُضِعَ لِصِحَّةِ الْفِكْرِ وَالتَّدْبِيرِ فَهُوَ يُعِينُ عَلَى تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَالْحِسَابِ وَالنَّرْدُ مَوْضُوعُهُ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَانِ أَيْ الْحَصَى وَنَحْوُهُ كَالْأَزْلَامِ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالطَّابِ، فَأَفْتَى السُّبْكِيُّ بِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِيهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْجَرَائِدُ الْأَرْبَعُ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْكَرَاهَةِ كَالشِّطْرَنْجِ؛ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِ الرَّافِعِيِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَا يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى إخْرَاجِ الْكَعْبَيْنِ فَكَالنَّرْدِ، أَوْ عَلَى الْفِكْرِ فَكَالشِّطْرَنْجِ (فَإِنْ) (شُرِطَ فِيهِ) أَيْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ (مَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ) عَلَى أَنَّ مَنْ غَلَبَ مِنْ اللَّاعِبَيْنِ فَلَهُ عَلَى الْآخَرِ كَذَا (فَقِمَارٌ) فَيَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأُمِّ فَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَإِنْ شُرِطَ مِنْ جَانِبِ أَحَدِ اللَّاعِبَيْنِ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ تَعَاطِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ فُحْشٌ أَوْ تَأْخِيرُ فَرِيضَةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا، وَكَذَا سَهْوًا كَلَعِبٍ بِهِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَحَرَامٌ أَيْضًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَكَذَا إذَا لَعِبَ بِهِ مَعَ مُعْتَقِدِ التَّحْرِيمِ كَمَا رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْحَزَّةُ وَهِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزَّايِ: قِطْعَةُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ يُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ وَيُلْعَبُ بِهَا وَتُسَمَّى الْمُنَقِّلَةُ، وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْقَرَقُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وَيُقَالُ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ: أَنْ يَخُطَّ فِي الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ وَيُجْعَلُ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ، وَيُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ تُقَلَّبُ بِهَا، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الرَّافِعِيِّ السَّابِقِ الْجَوَازُ، وَجَرَى ابْنُ الْمُقْرِي عَلَى أَنَّهُمَا كَالنَّرْدِ. وَيَجُوزُ اللَّعِبُ بِالْخَاتَمِ، وَيُكْرَهُ بِالْمَرَاجِيحِ وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَرَاهَةَ اللَّعِبِ بِالْحَمَامِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: هَذَا حَيْثُ لَمْ يَسْرِقْ اللَّاعِبُ طُيُورَ النَّاسِ، فَإِنْ فَعَلَ حَرُمَ وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُ، وَاِتِّخَاذُ الْحَمَامِ لَلْفِرَاخِ وَالْبَيْضِ وَالْأُنْسِ بِهَا، وَحَمْلُ الْبَطَائِقِ عَلَى أَجْنِحَتِهَا جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَيَحْرُمُ كَمَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ التَّحْرِيشُ بَيْنَ الدُّيُوكِ وَالْكِلَابِ وَتَرْقِيصُ الْقُرُودِ وَنِطَاحُ الْكِبَاشِ، وَالتَّفَرُّجُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاللَّعِبُ بِالصُّوَرِ، وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهَا.
المتن: وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ وَسَمَاعُهُ.
الشَّرْحُ: (وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ) بَلْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ مَنْدُوبٌ لِأَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ وَرَدَتْ بِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَنْشِيطِ الْإِبِلِ لِلسَّيْرِ وَإِيقَاظِ النَّائِمِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِالْمَدِّ بِخَطِّهِ، وَكَذَا فِي الْمُحْكَمِ وَالصِّحَاحِ وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ، وَيُقَالُ: فِيهِ حَدْوٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَا يُقَالُ خَلْفَ الْإِبِلِ مِنْ رَجَزِ شِعْرٍ وَغَيْرِهِ، ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَادِيَةِ فَأَضَافَهُ رَجُلٌ، فَرَأَى عِنْدَهُ عَبْدًا أَسْوَدَ مُقَيَّدًا فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ مَوْلَاهُ: إنَّهُ ذُو صَوْتٍ طَيِّبٍ وَكَانَتْ لَهُ عِيسٌ فَحَمَّلَهَا أَحْمَالًا ثَقِيلَةً وَحَدَأَهَا فَقَطَعَتْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ، فَلَمَّا حَطَّتْ أَحْمَالَهَا مَاتَتْ كُلُّهَا قَالَ: فَشَفَعْت فِيهِ فَشَفَّعَنِي، ثُمَّ سَأَلْته أَنْ يَحْدُوَ لِي فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَسَقَطْت لِوَجْهِي مِنْ طِيبِ صَوْتِهِ حَتَّى أَشَارَ إلَيْهِ مَوْلَاهُ بِالسُّكُوتِ (وَ) يُبَاحُ (سَمَاعُهُ) أَيْضًا وَاسْتِمَاعُهُ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ {حَرِّكْ بِالْقَوْمِ فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ}.
المتن: وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ بِلَا آلَةٍ، وَسَمَاعُهُ.
الشَّرْحُ: (وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ) وَهُوَ بِالْمَدِّ، وَقَدْ يُقْصَرُ، وَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَهُوَ وَاَللَّهِ الْغِنَاءُ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ. هَذَا إذَا كَانَ (بِلَا آلَةٍ) مِنْ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ (وَ) يُكْرَهُ (سَمَاعُهُ) كَذَلِكَ، وَالْمُرَادُ اسْتِمَاعُهُ وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ كَانَ أَوْلَى. أَمَّا مَعَ الْآلَةِ فَحَرَامَانِ، وَاسْتِمَاعُهُ بِلَا آلَةٍ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، فَإِنْ خِيفَ مِنْ اسْتِمَاعِهِ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَمْرَدَ فِتْنَةٌ فَحَرَامٌ قَطْعًا. فَائِدَةٌ: الْغِنَاءُ مِنْ الصَّوْتِ مَمْدُودٌ، وَمِنْ الْمَالِ مَقْصُورٌ. تَنْبِيهٌ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مَسْنُونٌ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِدَارَةِ لِلْقِرَاءَةِ بِأَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا، وَلَا بَأْسَ بِتَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدْبِيرِ، وَلَا بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَا بِقِرَاءَتِهِ بِالْأَلْحَانِ، فَإِنْ أَفْرَطَ فِي الْمَدِّ وَالْإِشْبَاعِ حَتَّى وَلَّدَ حُرُوفًا مِنْ الْحَرَكَاتِ أَوْ أَسْقَطَ حُرُوفًا حَرُمَ، وَيَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ، وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ، وَيُسَنُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ، وَتَدَبُّرُهَا، وَالْبُكَاءُ عِنْدَهَا، وَاسْتِمَاعُ شَخْصٍ حَسَنِ الصَّوْتِ، وَالْمُدَارَسَةُ، وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَدَثِ.
المتن: وَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَ اسْتِمَاعُهَا، لَا يَرَاعٍ فِي الْأَصَحِّ. قُلْت: الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَيَحْرُمُ) (اسْتِعْمَالُ) أَوْ اتِّخَاذُ (آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ) جَمْعُ شَارِبٍ وَهُمْ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ الْحَرَامِ، وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ هُوَ الضَّرْبُ بِهَا (كَطُنْبُورٍ) بِضَمِّ الطَّاءِ، وَيُقَالُ الطِّنْبَارُ (وَعُودٍ وَصَنْجٍ) وَهُوَ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: صُفْرٌ يُضْرَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَمَّى الصَّفَّاقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ (وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَا يُضْرَبُ بِهِ مَعَ الْأَوْتَارِ (وَ) يَحْرُمُ (اسْتِمَاعُهَا) أَيْ الْآلَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْرِبُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْمَعَازِفَ} قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعَازِفُ آلَاتُ اللَّهْوِ، وَمِنْ الْمَعَازِفِ الرَّبَابُ وَالْجُنْكُ (لَا) اسْتِعْمَالُ (يَرَاعٍ) وَهُوَ الشَّبَّابَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ جَوْفِهَا، فَلَا تَحْرُمُ (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّهُ يُنَشِّطُ عَلَى السَّيْرِ فِي السَّفَرِ (قُلْت: الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) كَمَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ وَتَرْجِيحُ الْأَوَّلِ تَبِعَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ الْغَزَالِيَّ، وَمَالَ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ بِتَحْرِيمِهِ وَبَحَثَ جَوَازَ اسْتِمَاعِ الْمَرِيضِ إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ فِي مَرَضِهِ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ فِي السَّمَاعِ بِالْمَلَاهِي وَبِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: السَّمَاعُ عَلَى الصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ مُنْكَرٌ وَضَلَالَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَهَلَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَزِيدُ فِي الذَّوْقِ فَهُوَ جَاهِلٌ أَوْ شَيْطَانٌ، وَمَنْ نَسَبَ السَّمَاعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَدَّبُ أَدَبًا شَدِيدًا، وَيُدْخَلُ فِي زُمْرَةِ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَلَيْسَ هَذَا طَرِيقَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِزْبِهِ وَأَتْبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ طَرِيقَةُ أَهْلِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ، وَيُنْكَرُ عَلَى هَذَا بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالْقَلْبِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِإِبَاحَةِ السَّمَاعِ فَذَاكَ حَيْثُ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ دُفٌّ وَشَبَّابَةٌ، وَلَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ، وَلَا مَنْ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ.
المتن: وَيَجُوزُ دُفٌّ لِعُرْسٍ وَخِتَانٌ، وَكَذَا غَيْرُهُمَا فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ.
الشَّرْحُ: (وَيَجُوزُ دُفٌّ) بِضَمِّ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الْأَصَابِعِ عَلَيْهِ (لِعُرْسٍ) لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ} (وَ) يَجُوزُ (خِتَانٌ) لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ دُفٍّ بَعَثَ، فَإِنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ أَوْ الْخِتَانِ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِمَا عَمِلَ بِالدِّرَّةِ " (وَكَذَا غَيْرُهُمَا) أَيْ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِإِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلَادَةٍ، وَعِيدٍ، وَقُدُومِ غَائِبٍ، وَشِفَاءِ مَرِيضٍ (فِي الْأَصَحِّ) لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْت إنْ رَدَّك اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْك بِالدُّفِّ، فَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت نَذَرْت فَأَوْفِ بِنَذْرِك} وَلِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ إظْهَارُ السُّرُورِ. قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ وَوَقْتِ الْعَقْدِ وَالزِّفَافِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِأَثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَارِّ. وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ ضَرْبَ الدُّفِّ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ قُدُومِ عَالِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ) (فِيهِ) أَيْ الدُّفِّ (جَلَاجِلُ) لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِجَلَاجِلَ فَعَلَيْهِ الْإِثْبَاتُ. تَنْبِيهٌ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمُرَادَ بِالْجَلَاجِلِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: الْمُرَادُ بِهِ الصُّنُوجُ: جَمْعُ صَنْجٍ، وَهِيَ الْحِلَقُ الَّتِي تُجْعَلُ دَاخِلَ الدُّفِّ، وَالدَّوَائِرُ الْعِرَاضُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ صُفْرٍ وَتُوضَعُ فِي خُرُوقِ دَائِرَةِ الدُّفِّ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَمَا يَقْتَضِيه إطْلَاقُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَلِيمِيِّ فِي تَخْصِيصِهِ لَهُ بِالنِّسَاءِ.
المتن: وَيَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ، وَهِيَ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ.
الشَّرْحُ: (وَيَحْرُمُ) (ضَرْبُ الْكُوبَةِ) (وَهِيَ) بِضَمِّ كَافِهَا وَسُكُونِ وَاوِهَا (طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ) وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ لِخَبَرِ {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَالْمَعْنَى فِيهِ التَّشْبِيهُ بِمَنْ يَعْتَادُ ضَرْبَهُ وَهُمْ الْمُخَنَّثُونَ، وَمُحَرَّمٌ اسْتِمَاعُهَا أَيْضًا لِمَا مَرَّ فِي آلَةِ الْمَلَاهِي. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ إبَاحَةُ مَا عَدَاهَا مِنْ الطُّبُولِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَكِنَّ مُرَادَهُمْ مَا عَدَا طُبُولِ اللَّهْوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِتَحْرِيمِ طُبُولِ اللَّهْوِ الْعِمْرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: تَفْسِيرُ الْكُوبَةِ بِالطَّبْلِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: غَلِطَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا الطَّبْلُ، بَلْ هِيَ النَّرْدُ ا هـ. لَكِنْ فِي الْمُحْكَمِ الْكُوبَةُ: الطَّبْلُ وَالنَّرْدُ، فَجَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَلَا يَحْسُنُ التَّغْلِيطُ.
المتن: لَا الرَّقْصُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنِّثِ.
الشَّرْحُ: (لَا الرَّقْصُ) فَلَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ أَوْ اعْوِجَاجٍ، وَلَا يُكْرَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ يُبَاحُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَسْتُرُهَا حَتَّى تَنْظُرَ إلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَيَرْفِسُونَ} وَالرَّفْسُ: الرَّقْصُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إذْ ذَاكَ صَغِيرَةً، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ، لَا إلَى أَبْدَانِهِمْ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَفَّالُ وَفِي الْإِحْيَاءِ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِوَجْدٍ فَيَجُوزُ - أَيْ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِمْ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَلَا حَاجَةَ لِاسْتِثْنَاءِ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ فَلَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ا هـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِلَّا فَنَجِدُ أَكْثَرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْصُوفًا بِهَذَا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الرَّقْصُ لَا يَتَعَاطَاهُ إلَّا نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنِّسَاءِ. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ إبَاحَتِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنْ) (يَكُونَ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْلِ الْمُخَنِّثِ) وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا، وَبِالْمُثَلَّثَةِ: مَنْ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ فِي حَرَكَةٍ أَوْ هَيْئَةٍ فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْحَلِيمِيِّ وَأَقَرَّهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خِلْقَةً فَلَا إثْمَ. وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى: مَا يُفْعَلُ فِي وَفَاءِ النِّيلِ مِنْ رَجُلٍ يُزَيَّنُ بِزِينَةِ امْرَأَةٍ، وَيُسَمُّونَهُ عَرُوسَةُ الْبَحْرِ، فَهَذَا مَلْعُونٌ فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ ذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْهُ .
المتن: وَيُبَاحُ قَوْلُ شَعْرٍ وَإِنْشَادُهُ إلَّا أَنْ يَهْجُوَ
الشَّرْحُ: (وَيُبَاحُ) (قَوْلُ شَعْرٍ) أَيْ إنْشَاؤُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ (وَإِنْشَادُهُ) وَاسْتِمَاعُهُ؛ {صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إلَيْهِمْ: مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ {وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، فَوَرَدَ إلَى الْمَدِينَةِ مُسْتَخْفِيًا، وَقَامَ إلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مُمْتَدِحًا فَقَالَ: - بَانَتْ سُعَادُ: إلَى آخِرِهَا - فَرَضِيَ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ بُرْدَةً ابْتَاعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ}. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: وَهِيَ الَّتِي مَعَ الْخُلَفَاءِ إلَى الْيَوْمِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْت شِعْرَ الْهُذَلِيِّينَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الشِّعْرُ كَلَامٌ، حَسَنُهُ كَحَسَنِهِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ} ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ صُوَرًا لَا يُبَاحُ فِيهَا قَوْلُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ فِي قَوْلِهِ (إلَّا أَنْ يَهْجُوَ) وَلَوْ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ لِلْإِيذَاءِ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الشَّافِعِيُّ خَبَرَ مُسْلِمٍ {لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا}.
المتن: أَوْ يُفْحِشَ، أَوْ يُعَرِّضَ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
الشَّرْحُ: تَنْبِيهٌ مَحَلُّ تَحْرِيمِ الْهِجَاءِ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ لِكَافِرٍ: أَيْ غَيْرِ مَعْصُومٍ جَازَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَمَرَ حَسَّانَ بِهَجْوِ الْكُفَّارِ} بَلْ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمِثْلُهُ فِي جَوَازِ الْهَجْوِ الْمُبْتَدِعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَالْفَاسِقُ الْمُعْلِنُ كَمَا قَالَهُ الْعِمْرَانِيُّ، وَبَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَوَازُ هَجْوِ الْكَافِرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ الْمُعَيَّنِ، وَعَلَيْهِ فَيُفَارِقُ عَدَمُ جَوَازِ لَعْنِهِ، فَإِنَّ اللَّعْنَ الْإِبْعَادُ مِنْ الْخَيْرِ، وَلَاعِنُهُ لَا يَتَحَقَّقُ بُعْدُهُ مِنْهُ، فَقَدْ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ، بِخِلَافِ الْهَجْوِ (أَوْ) إلَّا أَنْ (يُفْحِشَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بِخَطِّهِ بِأَنْ يُجَاوِزَ الشَّاعِرُ الْحَدَّ فِي الْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ وَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ} وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ: لَا تَكَادُ تَجِدُ مَدَّاحًا إلَّا رَذْلًا، وَلَا هَجَّاءً إلَّا بَذْلًا (أَوْ) إلَّا أَنْ (يُعَرِّضَ) وَفِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ يُشَبِّبَ (بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ) غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ، وَهُوَ ذِكْرُ صِفَاتِهَا مِنْ طُولٍ وَقِصَرٍ وَصُدْغٍ وَغَيْرِهَا فَيَحْرُمُ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ، وَاحْتَرَزَ بِالْمُعَيَّنَةِ عَنْ التَّشْبِيبِ بِمُبْهَمَةٍ فَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ، كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَإِنْشَادُهُ قَصِيدَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَتُهُ وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ الْكَلَامِ لَا تَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ. أَمَّا حَلِيلَتُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَلَا يَحْرُمُ التَّشْبِيبُ بِهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ خِلَافًا لِمَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ، وَنَقَلَ فِي الْبَحْرِ عَدَمَ رَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُكْثِرَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ، وَلَوْ شَبَّبَ بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ مِمَّا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ، وَكَذَا لَوْ وَصَفَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ بِأَعْضَائِهَا الْبَاطِنَةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِهِ وَإِنْ نُوزِعَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا شَبَّبَ بِغُلَامٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: يَفْسُقُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَاعْتُبِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ التَّعْيِينُ كَالْمَرْأَةِ، وَهَذَا أَوْلَى، وَلَيْسَ ذِكْرُ امْرَأَةٍ مَجْهُولَةٍ كَلَيْلَى تَعْيِينًا.
المتن: وَالْمُرُوءَةُ تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ، فَالْأَكْلُ فِي سُوقٍ، وَالْمَشْيُ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَإِكْثَارُ حِكَايَاتٍ مُضْحِكَةٍ، وَلُبْسُ فَقِيهٍ قُبَاءَ وَقَلَنْسُوَةٍ حَيْثُ لَا يُعْتَادُ، وَإِكْبَابٌ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ سَمَاعِهِ، وَإِدَامَةُ رَقْصٍ يُسْقِطُهَا، وَالْأَمْرُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ، وَحِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ كَحِجَامَةٍ وَكَنْسٍ وَدَبْغٍ مِمَّنْ لَا تَلِيقُ بِهِ تُسْقِطُهَا، فَإِنْ اعْتَادَهَا وَكَانَتْ حِرْفَةَ أَبِيهِ فَلَا فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَالْمُرُوءَةُ) لِلشَّخْصِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا (تَخَلُّقٌ) لِلْمَرْءِ (بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ) مِنْ أَبْنَاءِ عَصْرِهِ مِمَّنْ يُرَاعِي مَنَاهِجَ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ (فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ)؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعُرْفِيَّةَ قَلَّمَا تَنْضَبِطُ، بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبُلْدَانِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، فَإِنَّ الْفِسْقَ يَسْتَوِي فِيهِ الشَّرِيفُ وَالْوَضِيعُ، بِخِلَافِ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ، وَقِيلَ: الْمُرُوءَةُ التَّحَرُّزُ عَمَّا يُسْخَرُ مِنْهُ وَيُضْحَكُ بِهِ، وَقِيلَ: هِيَ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْأَدْنَاسِ، وَلَا يَشِينُهَا عِنْدَ النَّاسِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاعْتَرَضَ الْبُلْقِينِيُّ عَلَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خُلُقُ أَمْثَالِهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ كالقرندلية مَعَ فَقْدِ الْمُرُوءَةِ فِيهِمْ، وَقَدْ أَشَرْت إلَى رَدِّ هَذَا بِقَوْلِي: مِمَّنْ يُرَاعِي مَنَاهِجَ الشَّرْعِ وَآدَابِهِ (فَالْأَكْلُ) وَالشُّرْبُ (فِي سُوقٍ) لِغَيْرِ سُوقِيٍّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ وَلِغَيْرِ مَنْ لَمْ يَغْلِبْهُ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ. وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ الْأَكْلِ فِي السُّوقِ مَنْ أَكَلَ دَاخِلَ حَانُوتٍ مُسْتَتِرًا، وَفِيهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ نَظَرٌ (وَالْمَشْيُ) فِي السُّوقِ (مَكْشُوفَ الرَّأْسِ) أَوْ الْبَدَنِ غَيْرِ الْعَوْرَةِ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مِثْلُهُ وَلِغَيْرِ مُحْرِمٍ بِنُسُكٍ. أَمَّا الْعَوْرَةُ فَكَشْفُهَا حَرَامٌ (وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ) لَهُ (بِحَضْرَةِ النَّاسِ) أَوْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا مِنْ صَدْرٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا فَلَوْ عَبَّرَ بِحَضْرَةِ أَجْنَبِيٍّ كَانَ أَوْلَى. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالتَّقْبِيلُ الَّذِي يُسْتَحْيَا مِنْ إظْهَارِهِ، فَلَوْ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ بِحَضْرَةِ جَوَارِيهِ، أَوْ بِحَضْرَةِ زَوْجَاتٍ لَهُ غَيْرُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنْ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ، وَقَرَنَ فِي الرَّوْضَةِ بِالتَّقْبِيلِ أَنْ يَحْكِيَ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ مِمَّا يُسْتَحْيَا مِنْهُ، وَكَذَا صَرَّحَ فِي النِّكَاحِ بِكَرَاهَتِهِ، لَكِنْ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ حَرَامٌ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَتَهُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَأَنَّهُ تَقْبِيلُ اسْتِحْسَانٍ لَا تَمَتُّعٍ، أَوْ فَعَلَهُ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَضُرُّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَمَدُّ الرِّجْلِ عِنْدَ النَّاسِ بِلَا ضَرُورَةٍ كَقُبْلَةِ أَمَتِهِ بِحَضْرَتِهِمْ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَحْتَشِمُهُ، فَلَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ إخْوَانِهِ أَوْ نَحْوِهِمْ: كَتَلَامِذَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ (وَإِكْثَارُ حِكَايَاتٍ مُضْحِكَةٍ) بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ، وَخَرَجَ بِالْإِكْثَارِ مَا لَمْ يُكْثِرْ أَوْ كَانَ ذَلِكَ طَبْعًا لَا تَصَنُّعًا كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ {مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا} تَنْبِيهٌ: تَقْيِيدُهُ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةَ بِالْإِكْثَارِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا عَدَاهَا لَا يَتَقَيَّدُ بِالْإِكْثَارِ، بَلْ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: الَّذِي يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَكَرُّرِهِ تَكَرُّرًا دَالًّا عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ: أَيْ الْأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْعَدْلَ مَنْ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْإِكْثَارِ فِي الْجَمِيعِ (وَلُبْسُ فَقِيهٍ قُبَاءَ) بِالْمَدِّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَطْرَافِهِ، وَلُبْسُ جَمَّالٍ لُبْسَ الْقُضَاةِ (وَقَلَنْسُوَةٍ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ، وَبِضَمِّ الْقَافِ مَعَ السِّينِ: مَا يُلْبَسُ عَلَى الرَّأْسِ، هَذَا (حَيْثُ) أَيْ فِي بَلَدٍ (لَا يُعْتَادُ) لِلْفَقِيهِ لُبْسُهَا، وَقَيَّدَ فِي الرَّوْضَةِ لُبْسُهُمَا لِلْفَقِيهِ بِأَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِمَا، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ لُبْسَهُمَا فِي الْبَيْتِ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَإِكْبَابٌ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ) بِحَيْثُ يُشْغِلُهُ عَنْ مُهِمَّاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يُحَرِّمُهُ، وَيُرْجَعُ فِي قَدْرِ الْإِكْبَابِ لِلْعَادَةِ. أَمَّا الْقَلِيلُ مِنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ فَلَا يَضُرُّ فِي الْخَلْوَةِ، بِخِلَافِ قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ هَادِمٌ لِلْمُرُوءَةِ وَالْإِكْبَابُ عَلَى لَعِبِ الْحَمَامِ كَالْإِكْبَابِ عَلَى لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ (أَوْ) عَلَى (غِنَاءٍ أَوْ سَمَاعِهِ) أَيْ اسْتِمَاعِهِ، وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ لَكَانَ أَوْلَى، سَوَاءٌ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا، وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ الْإِكْبَابُ عَلَى إنْشَادِ الشِّعْرِ وَاسْتِنْشَادِهِ حَتَّى يَتْرُكَ بِهِ مُهِمَّاتِهِ، وَكَذَا اتِّخَاذُ جَارِيَةٍ أَوْ غُلَامٍ لِلْغِنَاءِ لِلنَّاسِ وَالْكَسْبِ بِالشِّعْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ بَحْثًا: وَالْغِنَاءُ قَدْ لَا يُزْرِي بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ، فَلَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ (وَإِدَامَةُ) أَيْ إكْثَارُ (رَقْصٍ) وَقَوْلُهُ (يُسْقِطُهَا) أَيْ الْمُرُوءَةَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا مَرَّ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ خَبَرُ قَوْلِهِ: فَالْأَكْلُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ (وَالْأَمْرُ فِيهِ) أَيْ مُسْقِطِ الْمُرُوءَةِ (يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ)؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْعُرْفِ، فَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي حَالٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي قُطْرٍ دُونَ آخَرَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ، فَحَمْلُ الْمَاءِ وَالْأَطْعِمَةِ إلَى الْبَيْتِ شُحًّا لَا اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ التَّارِكِينَ لِلتَّكَلُّفِ خَرْمُ مُرُوءَةٍ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَلِيقُ بِهِ وَمَنْ يَفْعَلُهُ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ، وَالتَّقَشُّفُ فِي الْأَكْلِ، وَاللُّبْسِ كَذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: يُرْجَعُ فِي قَدْرِ الْإِكْثَارِ لِلْعَادَةِ، وَظَاهِرُ تَقْيِيدِهِمْ مَا ذُكِرَ بِالْكَثْرَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا عَدَاهَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْكُلِّ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُعَدُّ لَهَا خَارِمًا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَغَيْرِهِ، فَالْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ السُّوقِيِّ مَرَّةً فِي السُّوقِ لَيْسَ كَالْمَشْيِ فِيهِ مَكْشُوفًا (وَحِرْفَةٌ دَنِيئَةٌ) مُبَاحَةٌ (كَحِجَامَةٍ وَكَنْسٍ) لِزِبْلٍ وَنَحْوِهِ (وَدَبْغٍ) وَنَحْوِهَا: كَقَيِّمِ حَمَّامٍ وَحَارِسٍ وَقَصَّابٍ وَإِسْكَافٍ وَنَخَّالٍ (مِمَّنْ لَا تَلِيقُ) هَذِهِ الْحِرْفَةُ (بِهِ) وَقَوْلُهُ (تُسْقِطُهَا) أَيْ الْمُرُوءَةَ لِإِشْعَارِ ذَلِكَ بِقِلَّةِ مُرُوءَتِهِ خَبَرُ قَوْلِهِ: وَحِرْفَةُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: دَنِيئَةٌ بِالْهَمْزِ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ السَّاقِطَةُ، وَبِتَرْكِهِ مِنْ الدُّنُوِّ بِمَعْنَى الْقَرِيبِ (فَإِنْ اعْتَادَهَا) مَعَ مُحَافَظَةِ مُخَامِرِ النَّجَاسَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي أَثْوَابٍ طَاهِرَةٍ (وَكَانَتْ حِرْفَةُ أَبِيهِ، فَلَا) يُسْقِطُهَا (فِي الْأَصَحِّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّرُ بِذَلِكَ، وَهِيَ حِرْفَةٌ مُبَاحَةٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَيْهَا، وَلَوْ رُدَّتْ بِهَا الشَّهَادَةُ لَرُبَّمَا تُرِكَتْ فَتُعَطِّلُ النَّاسَ. وَالثَّانِي تُسْقِطُهَا؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لَهَا مَعَ اتِّسَاعِ طُرُقِ الْكَسْبِ إشْعَارًا بِقِلَّةِ الْمُرُوءَةِ. تَنْبِيهٌ: هَذَا التَّقْيِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ. وَقَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْجُمْهُورُ لِهَذَا الْقَيْدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَيَّدَ بِصَنْعَةِ آبَائِهِ بَلْ يُنْظَرُ هَلْ تَلِيقُ بِهِ هُوَ أَمْ لَا؟ ، ثُمَّ إنَّهُ هُنَا وَافَقَ الْمُحَرَّرَ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، وَاعْتُرِضَ جَعْلُهُمْ الْحِرْفَةَ الدَّنِيئَةَ مِمَّا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَأُجِيبَ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ مَعَ حُصُولِ الْكِفَايَةِ بِغَيْرِهِ. أَمَّا الْحِرْفَةُ غَيْرُ الْمُبَاحَةِ كَالْمُنَجِّمِ وَالْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالْمُصَوِّرِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لِأَنَّ شِعَارَهُمْ التَّلْبِيسُ عَلَى الْعَامَّةِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الْكَذِبَ وَخَلْفَ الْوَعْدِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى التَّكَسُّبُ بِالشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبَدَانِ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْعَدَالَةِ، لَا سِيَّمَا إذَا مَنَعْنَا أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّحَمُّلِ أَوْ كَانَ يَأْخُذُ وَلَا يَكْتُبُ فَإِنَّ نُفُوسَ شُرَكَائِهِ لَا تَطِيبُ لِذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَأَسْلَمُ طَرِيقٍ فِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَرَقًا مُشْتَرَكًا وَيَكْتُبُ وَيَقْسِمُ عَلَى قَدْرِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ثَمَنِ وَرَقِهِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُقْرِئِينَ وَالْوُعَّاظِ. فُرُوعٌ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَمُسْتَحَبَّاتِ الصَّلَاةِ تَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ لِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَإِشْعَارِهِ بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ، وَمَحَلُّ هَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْحَاضِرِ أَمَّا مَنْ يُدِيمُ السَّفَرَ: كَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي وَبَعْضِ التُّجَّارِ فَلَا، وَيَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ مُدَاوَمَةُ مُنَادَمَتِهِ مُسْتَحِلَّ النَّبِيذِ وَالسُّفَهَاءِ، وَكَذَا كَثْرَةُ شُرْبِهِ إيَّاهُ مَعَهُمْ لِإِخْلَالِ ذَلِكَ بِالْمُرُوءَةِ، وَلَا يَقْدَحُ فِيهَا السُّؤَالُ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ طَافَ مُكْثِرُهُ بِالْأَبْوَابِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَسْبٍ مُبَاحٍ يَكْفِيه؛ لِحِلِّ الْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ، إلَّا إنْ أَكْثَرَ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ أَوْ أَخَذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ فَيَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ. نَعَمْ إنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِي الثَّانِيَةِ قَلِيلًا اُعْتُبِرَ التَّكْرَارُ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ،.
المتن: وَلَمَّا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ شُرُوطِ الشَّاهِدِ كَوْنَهُ غَيْرَ مُتَّهَمٍ بِتُهْمَةٍ تَرُدُّ شَهَادَتَهُ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَالتُّهْمَةُ أَنْ يَجُرَّ إلَيْهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ وَغَرِيمٍ لَهُ مَيِّتٍ أَوْ عَلَيْهِ حَجْرُ فَلَسٍ، وَبِمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ.
الشَّرْحُ: (وَالتُّهْمَةُ) بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ بِخَطِّهِ فِي الشَّخْصِ (أَنْ) (يَجُرَّ إلَيْهِ) بِشَهَادَتِهِ (نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ) بِهَا (ضَرَرًا) وَبِمَا تَقَرَّرَ انْدَفَعَ مَا قِيلَ: إنَّ كَلَامَهُ أَشْعَرَ بِعَوْدِ ضَمِيرٍ إلَيْهِ لِلشَّاهِدِ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَجُرَّ الشَّاهِدُ. إلَى الشَّاهِدِ، وَفِيهِ قَلَاقَةٌ، وَأَيْضًا فَالنَّفْعُ يَنْجَرُّ لِلْمُسَمَّى لَا لِلِاسْمِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْ يَجُرَّ إلَى نَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا كَانَ أَوْلَى ا هـ. ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِصُوَرٍ مِنْ جَرِّ النَّفْعَ بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ (فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِعَبْدِهِ) سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ أَوْ لَا كَمَا شَمِلَهُ إطْلَاقُهُ؛ لِأَنَّ مَا يَشْهَدُ بِهِ فَهُوَ لَهُ (وَمُكَاتَبِهِ)؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ عُلْقَةً؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ الْعَوْدِ إلَيْهِ بِعَجْزٍ أَوْ تَعْجِيزٍ. نَعَمْ لَوْ شَهِدَ بِشِرَاءِ شِقْصٍ لِمُشْتَرِيهِ، وَفِيهِ شُفْعَةٌ لِمُكَاتَبِهِ قُبِلَتْ نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ (وَغَرِيمٍ لَهُ مَيِّتٍ) وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْرِقْ تَرِكَتُهُ الدُّيُونَ (أَوْ عَلَيْهِ حَجْرُ فَلَسٍ)؛ لِأَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ لِلْغَرِيمِ شَيْئًا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَأَلْحَقَ الْمَاوَرْدِيُّ بِذَلِكَ إذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا بِنَفَقَتِهَا فَشَهِدَتْ لَهُ بِدَيْنٍ وَتُقْبَلُ لِغَرِيمِهِ الْمُوسِرِ، وَكَذَا الْمُعْسِرِ قَبْلَ الْحَجْرِ وَالْمَوْتِ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِذِمَّتِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ أَوْ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَالِهِ لِغُرَمَائِهِ حَالَ الشَّهَادَةِ، وَخَرَجَ بِحَجْرِ الْفَلَسِ حَجْرُ السَّفَهِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِمَا. نَعَمْ لَوْ شَهِدَ غَرِيمُ الْمُرْتَدِّ بِمَالٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ أَشَدُّ مِنْ الْمُفْلِسِ، وَقَرِيبٌ مِنْ الْمَيِّتِ (وَ) تُرَدُّ شَهَادَتُهُ أَيْضًا (بِمَا هُوَ) وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ أَوْ (وَكِيلٌ فِيهِ) وَلَوْ بِدُونِ جُعْلٍ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ سَلْطَنَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ.
المتن: وَبِبَرَاءَةِ مَنْ ضَمِنَهُ.
الشَّرْحُ:
تَنْبِيهٌ: يَلْحَقُ بِمَنْ ذُكِرَ شَهَادَةُ الْوَدِيعِ لِلْمُودِعِ وَالْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ لِاقْتِضَائِهَا دَوَامَ يَدِهِمَا، وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ الْقَبُولَ فِيمَا إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ وَشَهِدَ، وَلَكِنَّ مَحَلَّهُ مَا لَمْ يُخَاصِمْ، فَإِنْ خَاصَمَ ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ لِغَيْرِهِ الْقَطْعَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْوَكِيلِ لِمُوَكَّلِهِ بِمَا لَيْسَ وَكِيلًا فِيهِ، وَلَكِنْ حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ كَمَا فَعَلَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَأَصْلِ الرَّوْضَةِ كَانَ أَوْلَى لِيَتَنَاوَلَ مَنْ وُكِّلَ فِي شَيْءٍ بِخُصُومَةٍ أَوْ تَعَاطَى عَقْدًا فِيهِ أَوْ حَفِظَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُوَكِّلِهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِنَفْسِ مَا وُكِّلَ فِيهِ (وَ) تُرَدُّ شَهَادَتُهُ (بِبَرَاءَةِ مَنْ ضَمِنَهُ) بِأَدَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا الْغُرْمَ عَنْ نَفْسِهِ تَنْبِيهٌ: فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْ ضَمِنَهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ أَوْ غَرِيمُهُ الْمَيِّتُ أَوْ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِفَلَسٍ، وَمَنْ ضَمِنَهُ أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ. .
المتن: وَبِجِرَاحَةِ مُوَرِّثِهِ، وَلَوْ شَهِدَ لِمُوَرِّثٍ لَهُ مَرِيضٍ أَوْ جَرِيحٍ بِمَالٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ قُبِلَتْ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَ) تُرَدُّ شَهَادَةُ وَارِثٍ عِنْدَ الشَّهَادَةِ (بِجِرَاحَةِ مُوَرِّثِهِ) قَبْلَ انْدِمَالِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَتْنِ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ كَانَ الْأَرْشُ بِهِ، وَلَيْسَ مُوَرِّثُهُ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الشَّهَادَةِ لِحَجْبٍ مَثَلًا قُبِلَتْ، وَلَا يَضُرُّ زَوَالُ الْحَجْبِ وَارِثَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ (وَلَوْ) (شَهِدَ لِمُوَرِّثٍ لَهُ) غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ (مَرِيضٍ) مَرَضَ مَوْتٍ (أَوْ جَرِيحٍ بِمَالٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ) (قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُ (فِي الْأَصَحِّ) وَالثَّانِي: قَالَ: لَا كَالْجِرَاحَةِ لِلتُّهْمَةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْجِرَاحَةَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ النَّاقِلِ لِلْحَقِّ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَبَعْدَ الِانْدِمَالِ يُقْبَلُ قَطْعًا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ. نَعَمْ لَوْ مَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
المتن: وَتُرَدُّ شَهَادَةُ عَاقِلَةٍ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ.
الشَّرْحُ: وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الشَّهَادَة الْجَالِبَةِ لِلنَّفْعِ شَرَعَ فِي الدَّافِعَةِ لِلضَّرَرِ. فَقَالَ (وَتُرَدُّ شَهَادَةُ عَاقِلَةٍ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ) يَحْمِلُونَهُ مِنْ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، بِخِلَافِ شُهُودِ إقْرَارٍ بِذَلِكَ أَوْ شُهُودِ عَمْدٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا هُنَا؟. أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَطْلَقَ هُنَاكَ مَا يَجِبُ تَقْيِيدُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَدُّ جِرَاحَةِ الْمُوَرِّثِ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَ الِانْدِمَالِ. ثَانِيهِمَا رَدُّ الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ فِيمَا يَتَحَمَّلُونَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ هُنَا عَلَى الصَّوَابِ، وَبِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَهَا لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ وَذَكَرَهَا هُنَا لِلتَّمْثِيلِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ شَهِدَا لِمُوَرِّثِهِمَا فَمَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ؛ لِأَنَّهُمَا الْآنَ شَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
المتن: وَغُرَمَاءِ مُفْلِسٍ بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ.
الشَّرْحُ: (وَ) تُرَدُّ شَهَادَةُ (غُرَمَاءِ مُفْلِسٍ) حُجِرَ عَلَيْهِ (بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ) ظَهَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهَا ضَرَرَ الْمُزَاحَمَةِ. تَنْبِيهٌ: اسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ لِلْغَرِيمِ الشَّاهِدِ رَهْنٌ بِدَيْنِهِ وَلَا مَالِ لِلْمُفْلِسِ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ مَالٌ وَيُقْطَعُ بِأَنَّ الرَّهْنَ يُوفِي الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ بِهِ فَيُقْبَلُ لِفَقْدِ ضَرَرِ الْمُزَاحَمَةِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ، وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِيهِ ا هـ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ التَّعْلِيلِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَخْصٍ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَمَنْ أَوْصَى لَهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَدْيُونِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ.
المتن: وَلَوْ شَهِدَا لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ فَشَهِدَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ التَّرِكَةِ قُبِلَتْ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (شَهِدَا) أَيْ شَاهِدَانِ (لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ) مِنْ تَرِكَةٍ (فَشَهِدَا) أَيْ الِاثْنَانِ (لِلشَّاهِدَيْنِ) لَهُمَا (بِوَصِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ التَّرِكَةِ) (قُبِلَتْ الشَّهَادَتَانِ فِي الْأَصَحِّ) لِانْفِصَالِ كُلٍّ عَنْ شَهَادَةِ الْأُخْرَى، وَلَا تَجُرُّ شَهَادَتُهُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُوَاطَأَةِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا. تَنْبِيهٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِ الْقَافِلَةِ لِبَعْضٍ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ إذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَخَذَ مَالَ فُلَانٍ، فَإِنْ قَالَ: أَخَذَ مَالَنَا لَمْ تُقْبَلْ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ خُنْثَى بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَكَرًا لَاسْتَحَقَّ فِيهِ كَوَقْفِ الذُّكُورِ.
المتن: وَلَا تُقْبَلُ لِأَصْلٍ وَلَا فَرْعٍ
الشَّرْحُ: (وَ) مِمَّا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ الْبَعْضِيَّةَ، وَحِينَئِذٍ (لَا تُقْبَلُ لِأَصْلٍ) لِلشَّاهِدِ وَإِنْ عَلَا (وَلَا فَرْعٍ) لَهُ وَإِنْ سَفَلَ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، فَفِي الصَّحِيحِ {فَاطِمَةُ مِنِّي} وَكَذَا لَا تُقْبَلُ لِمُكَاتَبِ أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ وَلَا لِمَأْذُونِهِمَا. تَنْبِيهَانِ: أَحَدُهُمَا قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَحَدِ أَصْلَيْهِ أَوْ فَرْعَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بَيْنَ أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَإِنْ خَالَفَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي ذَلِكَ مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوَازِعَ الطَّبْعِيَّ قَدْ تَعَارَضَ فَظَهَرَ الصِّدْقُ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ، وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا شَهَادَتُهُ لَهُ بِالرُّشْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي حِجْرِهِ أَمْ لَا، وَإِنْ أَخَذْنَا بِإِقْرَارِهِ بِرُشْدِ مَنْ فِي حِجْرِهِ. ثَانِيهِمَا: مَحَلُّ عَدَمِ قَبُولِ إشْهَادِ الْأَصْلِ لَفَرْعِهِ وَعَكْسِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ضِمْنِيًّا، فَإِنْ كَانَ صَحَّ وَيَتَّضِحُ بِصُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ نَسَبَ وَلَدٍ فَأَنْكَرَ فَشَهِدَ أَبُوهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَبِ كَمَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ الشَّهَادَةُ لِحَفِيدِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ النَّسَبِ. ثَانِيَتُهُمَا: مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ شِرَاءَ عَبْدٍ فِي يَدِ زَيْدٍ مِنْ عَمْرٍو بَعْدَ أَنْ اشْتَرَاهُ عَمْرٌو مِنْ زَيْدٍ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَبَضَهُ وَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ جَمِيعَ ذَلِكَ فَشَهِدَ ابْنَاهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا يَقُولُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا.
المتن: وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمَا وَكَذَا عَلَى أَبِيهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا أَوْ قَذْفِهَا فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَتُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (عَلَيْهِمَا) أَيْ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عُقُوبَةٍ أَمْ لَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ عَدَاوَةٌ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ (وَكَذَا) تُقْبَلُ مِنْ فَرَعَيْنَ (عَلَى أَبِيهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا أَوْ قَذْفِهَا فِي الْأَظْهَرِ) لِضَعْفِ تُهْمَةِ نَفْعِ أُمِّهِمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ طَلَّقَهَا أَوْ نَكَحَ عَلَيْهَا مَعَ إمْسَاكِهَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ فَإِنَّهَا تَجُرُّ نَفْعًا إلَى الْأُمِّ، وَهُوَ انْفِرَادُهَا بِالْأَبِ. تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا حِسْبَةً أَوْ بَعْدَ دَعْوَى الضَّرَّةِ. أَمَّا لَوْ ادَّعَى الْأَبُ الطَّلَاقَ فِي زَمَنٍ سَابِقٍ لِإِسْقَاطِ نَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ فَشَهِدَا لَهُ فَهُنَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأَبِ لَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِقَوْلِهِ فِي دَعْوَاهُ الْخُلْعَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ.
المتن: وَإِذَا شَهِدَ لِفَرْعٍ وَأَجْنَبِيٍّ قُبِلَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَإِذَا) (شَهِدَ) بِحَقٍّ (لِفَرْعٍ) أَوْ أَصْلٍ لَهُ (وَأَجْنَبِيٍّ) كَأَنْ شَهِدَ بِرَقِيقٍ لَهُمَا كَقَوْلِهِ: هُوَ لِأَبِي وَفُلَانٍ، أَوْ عَكْسِهِ (قُبِلَتْ) تِلْكَ الشَّهَادَةُ (لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَظْهَرِ) مِنْ قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَالثَّانِي: لَا تُفَرَّقُ فَلَا تُقْبَلُ لَهُ.
المتن: قُلْت: وَتُقْبَلُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ
الشَّرْحُ: (قُلْت) كَالرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ (وَتُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ) لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ يَطْرَأُ وَيَزُولُ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْأَجِيرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَعَكْسِهِ. تَنْبِيهٌ: لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ لِذَلِكَ بِحُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِفْكِ كَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ وَلِفَرْعِهِ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ فَأَشْبَهَ الْأَبَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَاسْتَثْنَى عَلَى الْأَوَّلِ مَا إذَا شَهِدَ لِزَوْجَتِهِ بِأَنَّ فُلَانًا قَذَفَهَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ رَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لَهُمَا عَمَّا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ قَطْعًا إذْ لَا تُهْمَةَ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا بِزِنَاهَا فَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِيَانَتَهَا فِرَاشَهُ.
المتن: وَلِأَخٍ وَصَدِيقٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَ) تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ (لِأَخٍ) مِنْ أَخِيهِ، وَكَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَاشِي، وَإِنْ كَانُوا يَصِلُونَهُ وَيَبَرُّونَهُ (وَصَدِيقٍ) مِنْ صَدِيقِهِ، وَهُوَ مَنْ صَدَقَ فِي وِدَادِك بِأَنْ يُهِمَّهُ مَا أَهَمَّكَ. قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ: وَقَلِيلٌ ذَلِكَ - أَيْ فِي زَمَانِهِ - وَنَادِرٌ فِي زَمَانِنَا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِضَعْفِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّهَمَانِ تُهْمَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَمَّا شَهَادَةُ كُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ عَلَى الْآخَرِ فَمَقْبُولَةٌ جَزْمًا.
المتن: وَلَا تُقْبَلُ مِنْ عَدُوٍّ، وَهُوَ مَنْ يُبْغِضُهُ بِحَيْثُ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَيَحْزَنُ بِسُرُورِهِ وَيَفْرَحُ بِمُصِيبَتِهِ، وَتُقْبَلُ لَهُ، وَكَذَا عَلَيْهِ فِي عَدَاوَةِ دِينٍ كَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا تُقْبَلُ) شَهَادَةٌ (مِنْ عَدُوٍّ) عَلَى عَدُوِّهِ لِحَدِيثِ {لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْغِمْرُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْغِلُّ، وَهُوَ الْحِقْدُ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التُّهْمَةِ تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الظَّاهِرَةُ؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَةَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: {سَيَأْتِي قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ إخْوَانُ الْعَلَانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ} قِيلَ لِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْك مِمَّا مَرَّ بِك. قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ (وَهُوَ) أَيْ الْعَدُوُّ (مَنْ يُبْغِضُهُ) أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ (بِحَيْثُ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ) سَوَاءٌ أَطَلَبَهَا لِنَفْسِهِ أَمْ لِغَيْرِهِ أَمْ لَا (وَيَحْزَنُ بِسُرُورِهِ وَيَفْرَحُ بِمُصِيبَتِهِ) لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَدَاوَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيُخْتَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَلَوْ عَادَى مَنْ يُسْتَشْهَدُ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي خِصَامِهِ وَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى رَدِّهَا، وَلَوْ أَفْضَتْ الْعَدَاوَةُ إلَى الْفِسْقِ رُدَّتْ مُطْلَقًا. تَنْبِيهٌ: هَذَا الضَّابِطُ لَخَّصَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: ذِكْرُ الْبُغْضِ لَيْسَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ غَيْرُ الْبَغْضَاءِ قَالَ تَعَالَى: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَغْضَاءَ بِالْقَلْبِ وَالْعَدَاوَةَ بِالْفِعْلِ وَهِيَ أَغْلَظُ، فَلَا يُفَسَّرُ الْأَغْلَظُ بِالْأَخَفِّ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْأَشْبَهُ فِي الضَّابِطِ تَحْكِيمُ الْعُرْفِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَطْلَبِ، فَمَنْ عَدَّهُ أَهْلُ الْعُرْفِ عَدُوًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، إذْ لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ. فَرْعٌ: حُبُّ الرَّجُلِ لِقَوْمِهِ لَيْسَ عَصَبِيَّةً حَتَّى تُرَدَّ شَهَادَتُهُ لَهُمْ بَلْ تُقْبَلُ مَعَ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ وَهِيَ أَنْ يُبْغِضَ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي فُلَانٍ لَا تَقْتَضِي الرَّدَّ بِمُجَرَّدِهَا، وَإِنْ أَجْمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى أَعْدَاءِ قَوْمِهِ وَوَقَعَ مَعَهَا فِيهِمْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ (وَتُقْبَلُ لَهُ) أَيْ الْعَدُوِّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ أَوْ فَرْعُهُ إذْ لَا تُهْمَةَ وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ وَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ لَهُ أَيْضًا لَا تَزْكِيَتُهُ لِشَاهِدٍ شَهِدَ عَلَيْهِ كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَخَرَجَ بِالْعَدُوِّ أَصْلُ الْعَدُوِّ وَفَرْعُهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، إذْ لَا مَانِعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (وَكَذَا) تُقْبَلُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْعَدُوِّ (فِي عَدَاوَةِ دِينٍ كَكَافِرٍ) شَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ (وَمُبْتَدِعٍ) شَهِدَ عَلَيْهِ سُنِّيٌّ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ قَالَ الْعَالِمُ لِجَمَاعَةٍ: لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَخْلِطُ أَوْ لَا تَسْتَفْتُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْفَتْوَى لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نُصْحٌ لِلنَّاسِ، نَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا بِعَدَاوَةٍ وَلَا غِيبَةٍ إنْ كَانَ يَقُولُهُ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيُخْطِئَ بِاتِّبَاعِهِ.
المتن: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مُبْتَدِعٍ لَا نُكَفِّرُهُ.
الشَّرْحُ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ مُبْتَدِعٍ لَا نُكَفِّرُهُ) بِبِدْعَتِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَا نُفَسِّقُهُ بِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ وَمَنْ يُكَفَّرُ بِهَا، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الرِّدَّةِ جُمْلَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ لِمَا قَامَ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً} فَجَعَلَ الْكُلَّ مِنْ أُمَّتِهِ، وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مُنْكِرُو حُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ لِلْأَجْسَامِ وَعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعْدُومِ وَبِالْجُزْئِيَّاتِ لِإِنْكَارِ بَعْضِ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ ضَرُورَةً فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِ وَلَا خَطَّابِيٍّ لِمِثْلِهِ، وَهُمْ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ كَانَ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ أَبِي جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. ثُمَّ ادَّعَى إلَهِيَّةً لِنَفْسِهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَذِبَ كُفْرٌ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَكْذِبُ فَيُصَدِّقُونَهُ عَلَى مَا يَقُولُ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ. هَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرُوا فِي شَهَادَتِهِمْ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى قَوْلِ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِنْ بَيَّنُوا مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ كَأَنْ قَالُوا: سَمِعْنَاهُ يُقِرُّ لَهُ بِكَذَا أَوْ رَأَيْنَاهُ يُقْرِضُهُ كَذَا قُبِلَتْ فِي الْأَصَحِّ. تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ سَبِّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ قَالَ بِخِلَافِ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَإِنَّهُ كَافِرٌ - أَيْ لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا فَإِنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ فَهُوَ فَاسِقٌ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ سَبَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُغَلَّطُ فَيُقَالُ: شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ ا هـ. فَجَعَلَ مَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ غَلَطًا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَنُقِلَ عَنْ جَمْعٍ التَّصْرِيحُ بِهِ وَأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ كَفَّرَهُمْ فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الشَّيْخَيْنِ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ غَيْرِ الْخَطَّابِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمَالَ وَالدَّمَ وَغَيْرَهُمَا، وَنَقَلَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ التَّصْرِيحَ بِهِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ، وَنَقَلَا فِي بَابِ الْبُغَاةِ عَنْ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَلَا يَنْفُذُ قَضَاءُ قَاضِيهِمْ إذَا اسْتَحَلُّوا دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا وَقَدَّمْنَا الْفَرْقَ هُنَاكَ فَلْيُرَاجَعْ. فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى وَاجِبَةٍ، وَمُحَرَّمَةٍ، وَمَنْدُوبَةٍ، وَمَكْرُوهَةٍ، وَمُبَاحَةٍ. قَالَ وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَمُحَرَّمَةٌ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالرَّافِضَةِ. قَالَ: وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ. أَيْ لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ مَنْ أَحْدَثَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمَنْدُوبِ فَمَنْدُوبَةٌ كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ، وَكُلُّ إحْسَانٍ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهٌ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ كَالْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ: وَالثَّانِي مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ.
المتن: لَا مُغَفَّلٍ لَا يَضْبِطُ.
الشَّرْحُ: وَ (لَا) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (مُغَفَّلٍ لَا يَضْبِطُ) أَصْلًا أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ. أَمَّا مَنْ لَا يَضْبِطُ نَادِرًا وَالْأَغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَلُ قَطْعًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ تَعَادَلَ غَلَطُهُ وَضَبْطُهُ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ كَمَنْ غَلَبَ غَلَطُهُ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الرَّدِّ فِيمَنْ غَلَطُهُ وَضَبْطُهُ سَوَاءٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً، فَإِنْ فَسَّرَهَا وَبَيَّنَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَمَكَانِهِ قُبِلَتْ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ قَالَ الْإِمَامُ: وَالِاسْتِفْصَالُ عِنْدَ اسْتِشْعَارِ الْقَاضِي غَفْلَةً فِي الشُّهُودِ حَتْمٌ، وَكَذَا إنْ رَابَهُ أَمْرٌ، وَإِذَا اسْتَفْصَلَهُمْ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُغَفَّلِينَ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ. قَالَ وَمُعْظَمُ شَهَادَةِ الْعَوَامّ يَشُوبُهَا غِرَّةٌ وَسَهْوٌ وَجَهْلٌ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا فَيَتَعَيَّنُ الِاسْتِفْصَالُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ الِاسْتِفْصَالُ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ تَبَيُّنُ تَثَبُّتِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ.
المتن: وَلَا مُبَادِرٍ.
الشَّرْحُ: (وَلَا) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (مُبَادِرٍ) بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ الدَّعْوَى جَزْمًا، وَكَذَا بَعْدَهَا وَقَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى الْأَصَحِّ لِلتُّهْمَةِ وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ} فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَأَمَّا خَبَرُ مُسْلِمٍ {أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهُودِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا} فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ. تَنْبِيهٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ اخْتَبَأَ وَجَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ مُخْتَبِئًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَيْهِ، وَيُسَنُّ أَنْ يُخْبِرَ الْخَصْمَ أَنِّي شَهِدْت عَلَيْك لِئَلَّا يُبَادِرَ إلَى تَكْذِيبِهِ فَيَعْذُرُهُ الْقَاضِي وَلَوْ قَالَ رَجُلَانِ مَثَلًا لِثَالِثٍ: تَوَسَّطْ بَيْنَنَا لِنَتَحَاسَبَ وَلَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِمَا جَرَى، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: وَتَرْكُ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ.
المتن: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ كَطَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، وَحَدٍّ لَهُ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ.
الشَّرْحُ: ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَةِ الْمُبَادِرِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ) مِنْ الِاحْتِسَابِ وَهُوَ طَلَبُ الْأَجْرِ، سَوَاءٌ أَسَبَقَهَا دَعْوَى أَمْ لَا، كَانَتْ فِي غَيْبَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنْ الشَّهَادَاتِ فِي شُرُوطِهَا السَّابِقَةِ (فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى) الْمُتَمَحِّضَةِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا (وَفِيمَا لَهُ) أَيْ فِي الَّذِي لِلَّهِ (فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ) وَهُوَ مَا لَا يَتَأَثَّرُ بِرِضَا الْآدَمِيِّ (كَطَلَاقٍ) بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، وَأَمَّا الْخُلْعُ فَنَقَلَا عَنْ الْبَغَوِيِّ الْمَنْعَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ الْمَالِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّهَا تُسْمَعُ لِثُبُوتِ الطَّلَاقِ دُونَ الْمَالِ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ا هـ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَقُّ آدَمِيٍّ دُونَ الْفِرَاقِ، (وَعِتْقٍ) غَيْرِ ضِمْنِيٍّ، وَلَا فَرْقَ فِي الْعِتْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا، عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ دُونَ الْعَبْدِ. أَمَّا الضِّمْنِيُّ كَمَنْ شَهِدَ لِشَخْصٍ بِشِرَاءِ قَرِيبِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ، وَالْعِتْقُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالْعِتْقِ أَنْ يَشْهَدَ بِخُصُوصِهِ، فَلَوْ شَهِدَ بِمَا يُفْضِي إلَيْهِ فَالْمَنْقُولُ فِي الِاسْتِيلَادِ الْقَبُولُ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ وَالتَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ وَالْكِتَابَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا فَفَارَقَتْ الِاسْتِيلَادَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِهَا، وَتَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِالْعِتْقِ الْحَاصِلِ بِشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالتَّدْبِيرِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ (وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ) فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ النَّفْسِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا (وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا) لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ صِيَانَةِ الْفَرْجِ وَاسْتِبَاحَتِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، وَلِمَا فِي الثَّانِي مِنْ الصِّيَانَةِ بِقَصْدِ التَّعَفُّفِ بِالنِّكَاحِ، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ (وَحَدٍّ لَهُ) تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَذَا حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الصَّحِيحِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ (وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ) لِأَنَّ فِي وَصْلِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، إذْ الشَّرْعُ أَكَّدَ الْأَنْسَابَ وَمَنَعَ قَطْعَهَا فَضَاهَى الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ. وَالثَّانِي لَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِيهِ. تَنْبِيهٌ: يُلْتَحَقُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ الْإِحْصَانُ، وَالتَّعْدِيلُ، وَالزَّكَوَاتُ، وَالْكَفَّارَاتُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْكُفْرُ، وَالْإِسْلَامُ، وَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْوَقْفُ إذَا عَمَّتْ جِهَتُهُمَا وَلَوْ أُخِّرَتْ الْجِهَةُ الْعَامَّةُ، فَيَدْخُلُ نَحْوُ مَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ دَارًا عَلَى أَوْلَادِهِ، ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَرَثَتُهُ وَتَمَلَّكُوهَا، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ حِسْبَةً قَبْلَ انْقِرَاضِ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِيَّتِهَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ آخِرَهُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، لَا إنْ خُصَّتْ جِهَتُهُمَا فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا لِتَعَلُّقِهِمَا بِحُظُوظٍ خَاصَّةٍ، وَاحْتُرِزَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْأَقَارِيرِ وَنَحْوِهَا لَكِنْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهِ أَعْلَمَهُ الشَّاهِدُ بِهِ لِيَسْتَشْهِدَهُ بَعْدَ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ، أَوْ أَنَّهُ أَخُو فُلَانَةَ مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَا: إنَّهُ يَسْتَرِقُّهُ، أَوْ أَنَّهُ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، وَكَيْفِيَّةُ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ أَنَّ الشُّهُودَ يَجِيئُونَ إلَى الْقَاضِي وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَأَحْضِرْهُ لِنَشْهَدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ابْتَدَءُوا وَقَالُوا: فُلَانٌ زَنَى فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْإِسْنَوِيِّ، وَنَسَبَهُ الْإِمَامُ لِلْعِرَاقِيِّينَ لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ لَمْ يَأْذَنْ فِي الطَّلَبِ وَالْإِثْبَاتِ، بَلْ أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَرَجَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ: أَنَّهَا تُسْمَعُ وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا فَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: إنَّهَا تُسْمَعُ إلَّا فِي مَحْضِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.
المتن: وَمَتَى حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا فَاسِقَانِ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ: (وَمَتَى) (حَكَمَ) قَاضٍ (بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا) عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَوْ عِنْدَ الْحُكْمِ بِهِمَا (كَافِرَيْنِ، أَوْ عَبْدَيْنِ) (أَوْ صَبِيَّيْنِ) أَوْ امْرَأَتَيْنِ، أَوْ خُنْثَيَيْنِ، أَوْ بَانَ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ (نَقَضَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ) لِتَيَقُّنِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ إظْهَارُ الْبُطْلَانِ. قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شَهَادَةِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ نُقِضَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الصُّورَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَحَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ ظَنَّهُمَا حُرَّيْنِ فَلَا اعْتِدَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصٌ فِي الْوِلَايَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ (وَكَذَا فَاسِقَانِ) ظَهَرَ فِسْقُهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِهِمَا (فِي الْأَظْهَرِ) كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ دَلَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ. وَالثَّانِي: لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ، وَقَبُولَ بَيِّنَةِ فِسْقِهِمَا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، وَعُورِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ يُنْقَضُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ عَدَالَتَهُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ. تَنْبِيهٌ: قَيَّدَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْبَغَوِيُّ النَّقْضَ بِمَا إذَا كَانَ الْفِسْقُ ظَاهِرًا غَيْرَ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ كَشُرْبِ النَّبِيذِ لَمْ يُنْقَضْ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى فِسْقِهِمَا مُطْلَقَيْنِ وَلَمْ يُسْنِدَا إلَى حَالَةِ الْحُكْمِ لَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ؛ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ. فَرْعٌ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ثُمَّ فَسَقَا، أَوْ ارْتَدَّا قَبْلَ الْحُكْمِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى، وَيُشْعِرُ بِخُبْثٍ كَامِنٍ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَخْفَى غَالِبًا، فَرُبَّمَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ عَمِيَا أَوْ خَرِسَا أَوْ جُنَّا أَوْ مَاتَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمَا؛؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُوقِعُ رِيبَةً فِيمَا مَضَى، بَلْ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُمَا بَعْدَ حُدُوثِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَوْ فَسَقَا أَوْ ارْتَدَّا بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ اُسْتُوْفِيَ، كَمَا لَوْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا كَذَلِكَ، وَخَرَجَ بِالْمَالِ الْحُدُودُ فَلَا تُسْتَوْفَى، وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ بَعْدَ الْحُكْمِ: بَانَ لِي أَنَّهُمَا كَانَا فَاسِقَيْنِ وَلَمْ تَظْهَرْ بَيِّنَةٌ بِفِسْقِهِمَا نُقِضَ حُكْمُهُ إنْ جَوَّزْنَا قَضَاءَهُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَمْ يُتَّهَمْ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: أُكْرِهْت عَلَى الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا وَأَنَا أَعْلَمُ فِسْقَهُمَا قُبِلَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ بَانَا وَالِدَيْنِ، أَوْ وَلَدَيْنِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، أَوْ عَدُوَّيْنِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْتَقَضَ الْحُكْمُ أَيْضًا، كَمَا لَوْ بَانَا فَاسِقَيْنِ، وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ: كُنْت يَوْمَ الْحُكْمِ فَاسِقًا فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَا يُلْتَفَت إلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الشَّاهِدَانِ كُنَّا عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَاسِقَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ بَانَ لِي فِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ؟. أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِصِفَةِ نَفْسِهِ مِنْهُ بِصِفَةِ غَيْرِهِ، فَتَقْصِيرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ.
المتن: وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ كَمَالِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَوْ فَاسِقٌ تَابَ فَلَا، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِهَا بِشَرْطِ اخْتِبَارِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُدَّةً يُظَنُّ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ، وَقَدَّرَهَا الْأَكْثَرُونَ بِسَنَةٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةٍ الْقَوْلُ فَيَقُولُ الْقَاذِفُ قَذْفِي بَاطِلٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الزُّورِ. قُلْت: وَغَيْرُ الْقَوْلِيَّةِ يُشْتَرَطُ إقْلَاعٌ، وَنَدَمٌ، وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ، وَرَدُّ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ: (وَلَوْ) (شَهِدَ كَافِرٌ) مُعْلِنٌ بِكُفْرِهِ أَوْ مُرْتَدٌّ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ (أَوْ عَبْدٌ، أَوْ صَبِيٌّ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ كَمَالِهِ) بِإِسْلَامٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ بُلُوغٍ (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ لَا يُعَيَّرُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ (أَوْ) شَهِدَ (فَاسِقٌ تَابَ) مِنْ فِسْقِهِ، أَوْ عَدُوٌّ تَابَ مِنْ عَدَاوَتِهِ، أَوْ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ ثُمَّ عَادَتْ مُرُوءَتُهُ، أَوْ سَيِّدٌ لِمُكَاتَبِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، أَوْ مَخْفِيُّ الْكُفْرِ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ (فَلَا) تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ يُعَيَّرُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ (وَتُقْبَلُ) (شَهَادَتُهُ) أَيْ الْفَاسِقِ (فِي غَيْرِهَا) أَيْ فِي غَيْرِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا حَالَ فِسْقِهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَتْنِ بِغَيْرِهَا (بِشَرْطِ اخْتِبَارِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُدَّةً يُظَنُّ بِهَا صِدْقُ تَوْبَتِهِ)؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِإِظْهَارِهَا لِتَرْوِيجِ شَهَادَتِهِ، وَعَوْدِ وِلَايَتِهِ، فَاعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لَيُقَوِّيَ مَا ادَّعَاهُ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْقَذَفَةِ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} (وَقَدَّرَهَا الْأَكْثَرُونَ) مِنْ الْأَصْحَابِ (بِسَنَةٍ) لِأَنَّ لِمُضِيِّهَا الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَثَرًا بَيِّنًا فِي تَهْيِيجِ النُّفُوسِ لِمَا تَشْتَهِيه، فَإِذَا مَضَتْ عَلَى السَّلَامَةِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِحُسْنِ السَّرِيرَةِ، وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّارِعُ السَّنَةَ فِي الْعُنَّةِ وَفِي مُدَّةِ التَّغْرِيبِ وَالزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ، وَهَلْ السَّنَةُ تَحْدِيدٌ أَوْ تَقْرِيبٌ؟ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي وَالْبَحْرِ، رَجَّحَ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُمَا الثَّانِيَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلُ. وَاسْتُثْنِيَ مِنْ اشْتِرَاطِ الِاخْتِبَارِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَخْفِيُّ الْفِسْقِ إذَا تَابَ وَأَقَرَّ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ التَّوْبَةَ عَمَّا كَانَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ إلَّا عَنْ صَلَاحٍ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ. وَمِنْهَا مَا لَوْ عَصَى الْوَلِيُّ بِالْعَضْلِ ثُمَّ تَابَ زُوِّجَ فِي الْحَالِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَمِنْهَا شَاهِدُ الزِّنَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ تَمَامِ الْعَدَدِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اسْتِبْرَاءٍ بَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَالِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَمِنْهَا نَاظِرُ الْوَقْفِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ إذَا فَسَقَ ثُمَّ تَابَ عَادَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ. وَمِنْهَا الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْقَضَاءِ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ فِي بَابِ الْقَضَاءِ. وَمِنْهَا قَاذِفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ: قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ لِمَفْهُومِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا مَنْ قَذَفَ مُحْصَنَةً فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُخْتَبَرَ. وَمِنْهَا الصَّبِيُّ إذَا فَعَلَ مَا يَقْتَضِي فِسْقَ الْبَالِغِ ثُمَّ تَابَ وَبَلَغَ تَائِبًا. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ أَيْضًا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الِاخْتِبَارُ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. وَمِنْهَا لَوْ حَصَلَ خَلَلٌ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ زَالَ احْتَاجَ الْفَرْعُ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ثَانِيًا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَمِنْهَا الْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ وَكَانَ عَدْلًا قَبْلَ الرِّدَّةِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ كَالْفَاسِقِ؟. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ الْكُفْرِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا زَنَى ثُمَّ تَابَ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ مُضَافَةً لِلْمَعْصِيَةِ بِحَيْثُ تَنْفِيهَا، وَقَيَّدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إسْلَامَ الْمُرْتَدِّ بِمَا إذَا أَسْلَمَ مُرْسَلًا، فَإِنْ أَسْلَمَ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْقَتْلِ اُعْتُبِرَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ. تَنْبِيهٌ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ كَالرَّافِعِيِّ عَلَى الْفِسْقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا تَابَ عَمَّا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِبْرَاءٍ، وَلَيْسَ مُرَادًا، فَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ. قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَلَهُ وَجْهٌ، فَإِنَّ خَارِمَ الْمُرُوءَةِ صَارَ بِاعْتِيَادِهِ سَجِيَّةً لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِبَارِ حَالِهِ، وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَبِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْعَدَاوَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَذْفًا أَمْ لَا كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ (وَيُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةٍ الْقَوْلُ) قِيَاسًا عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الرِّدَّةِ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ (فَيَقُولُ الْقَاذِفُ) مَثَلًا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْقَذْفِ (قَذْفِي) فُلَانًا (بَاطِلٌ) أَوْ مَا كُنْت مُحِقًّا فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ) لِيَنْدَفِعَ عَارُ الْقَذْفِ، وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَقُولَ كَذَبْت، فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالْكَذِبِ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: قَذْفِي بَاطِلٌ صَرِيحٌ فِي إكْذَابِ نَفْسِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ، فَكَانَ الْأَوْلَى إتْيَانَهُ بِعِبَارَةِ الْمُحَرَّرِ وَالْجُمْهُورِ، وَهِيَ الْقَذْفُ بَاطِلٌ: أَيْ قَذْفُ النَّاسِ بَاطِلٌ. أُجِيبَ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى تَجْوِيزِ نِيَابَةٍ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَنْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أَيْ الدِّينَ، وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَذْفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيذَاءِ أَوْ عَلَى الشَّهَادَةِ إذَا لَمْ يَتِمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا إلَّا كَذَّابٌ جَرَيَانُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي انْتَهَى، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: ظَاهِرٌ فِيمَنْ قَذَفَ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي وَاتَّصَلَ قَذْفُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ اعْتَرَفَ، وَغَيْرُ ظَاهِرٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْقَاضِي أَصْلًا، بَلْ فِي جَوَازِ إتْيَانِهِ الْقَاضِيَ وَإِعْلَامِهِ لَهُ بِالْقَذْفِ نَظَرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ (وَكَذَا شَهَادَةُ الزُّورِ) يَقُولُ الشَّاهِدُ فِيهَا عَلَى وِزَانِ مَا مَرَّ شَهَادَتِي بَاطِلَةٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهَا، وَلَا أَعُودُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَبَقَ وَلَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ يَقُولُ: كَذَبْت فِيمَا قُلْت وَلَا أَعُودُ إلَى مِثْلِهِ وَأَقَرَّاهُ (قُلْت) كَالرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ (وَ) الْمَعْصِيَةُ (غَيْرُ الْقَوْلِيَّةِ) كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ (يُشْتَرَطُ) فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا (إقْلَاعٌ) عَنْهَا (وَنَدَمٌ) عَلَيْهَا (وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ) لَهَا (وَرَدُّ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ) مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، وَقِصَاصٍ وَحَدِّ قَذْفٍ (إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) فَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ لَمُسْتَحَقِّهَا، وَيَرُدُّ الْمَغْصُوبَ إنْ بَقِيَ وَبَدَلَهُ إنْ تَلِفَ لِمُسْتَحِقِّهِ أَوْ يَسْتَحِلُّ مِنْهُ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ وَيُعْلِمُهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُسْتَحِقٌّ أَوْ انْقَطَعَ خَبَرُهُ سَلَّمَهَا إلَى قَاضٍ أَمِينٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهَا وَيُؤَدِّي الْغُرْمَ أَوْ يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ، وَالْمُعْسِرُ يَنْوِي الْعَزْمَ إذَا قَدِرَ، فَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا طُولِبَ فِي الْآخِرَةِ إنْ عَصَى بِالِاسْتِدَانَةِ كَأَنْ اسْتَدَانَ لِإِعَانَةٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَإِلَّا فَإِنْ اسْتَدَانَ لِحَاجَةٍ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ رَجَا الْوَفَاءَ مِنْ جِهَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ حِينَئِذٍ، وَالرَّجَاءُ فِي اللَّهِ تَعَالَى تَعْوِيضُ خَصْمِهِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالْخُرُوجِ مِنْ ظُلَامَةِ آدَمِيٍّ بَدَلَ الرَّدِّ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ الرَّدَّ وَالْإِبْرَاءَ مِنْهَا وَإِقْبَاضَ الْبَدَلِ عِنْدَ التَّلَفِ، وَيَشْمَلَ الْمَالَ وَالْعَرَضَ وَالْقِصَاصَ، فَلَا بُدَّ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ مِنْ التَّمْكِينِ أَوْ طَلَبِ الْعَفْوِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَ إعْلَامُهُ بِالْقِصَاصِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي قَتَلْت أَبَاك وَلَزِمَنِي الْقِصَاصُ فَاقْتَصَّ إنْ شِئْت، وَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ. وَأَمَّا لِغِيبَةٍ فَإِنْ بَلَغَتْ الْمُغْتَابَ اُشْتُرِطَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ أَوْ تَعَسُّرٍ لِغَيْبَتِهِ الطَّوِيلَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْلِيلِ الْوَرَثَةِ. وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ كَفَى النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ كَمَا قَالَهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَيَظْهَرُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَالِهِ إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ الْإِيذَاءُ، وَهَلْ يَكْفِي الِاسْتِحْلَالُ مِنْ الْغِيبَةِ الْمَجْهُولَةِ؟ قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ا هـ. وَلَكِنَّهُمَا إنَّمَا سَبَقَا فِي كِتَابِ الضَّمَانِ وَلَمْ نُرْجِعْ مِنْهُمَا شَيْئًا وَرَجَّحَ فِي الْأَذْكَارِ عَدَمَ الِاكْتِفَاءِ، وَالْوَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ فِي الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَجْهُولِ. قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْحُسْبَانِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ بِالْمُسَامَحَةِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، وَفِي كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ وَغَيْرِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْجَوَازِ، وَحَدِيثُ كَلَامِ الْأَذْكَارِ فِي بَابِ الضَّمَانِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَمْوَالِ أَظْهَرُ. وَالْحَسَدُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَيَفْرَحَ بِمُصِيبَتِهِ كَالْغِيبَةِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ فَيَأْتِي فِيهِ مَا مَرَّ فِيهَا. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: الْمُخْتَارُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إخْبَارُ الْمَحْسُودِ، وَلَوْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهِ لَمْ يَبْعُدْ التَّنْبِيهُ الثَّانِي قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ رَدَّ الظُّلَامَةِ تُوقِفُ التَّوْبَةَ فِي الْقِصَاصِ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا نَدِمَ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلْقِصَاصِ، وَكَانَ تَأَخُّرُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً أُخْرَى تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَلَا يَقْدَحُ فِي الْأُولَى. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ حَيْثُ أَمْكَنَ لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إنْ تَعَلَّقَتْ بِآدَمِيٍّ أَعَمَّ مِمَّا تَمَحَّضَ حَقًّا لَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَحَّضْ، وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَذَا الْكَفَّارَاتُ قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَالْمُرَادُ الَّتِي يَجِبُ إخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ: إنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْآدَمِيِّ يُخْرِجُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ: إنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الْقَوْلِيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي الْقَوْلُ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ رُكْنٌ فِي التَّوْبَةِ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ قَوْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ فِعْلِيَّةً، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَهُ وَيُقِرَّ بِهِ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، فَإِنْ ظَهَرَ فَقَدْ فَاتَ السَّتْرُ فَيَأْتِي الْحَاكِمَ وَيُقِرُّ بِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ. التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ: إنَّ كَلَامَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي انْتِفَاءِ الْمَعْصِيَةِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَقَدْ قَدَّمْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ فَلْيُرَاجَعْ. التَّنْبِيهُ السَّادِسُ: مَنْ مَاتَ وَلَهُ دُيُونٌ أَوْ مَظَالِمُ وَلَمْ تَصِلْ إلَى الْوَرَثَةِ طَالَبَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا آخِرَ وَارِثٍ كَمَا قِيلَ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْوَارِثِ أَوْ أَبْرَأَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي خَرَجَ عَنْ مَظْلَمَةٍ غَيْرِ الْمَطْلِ. التَّنْبِيهُ السَّابِعُ: تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ صَغِيرَةً عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ وَتَكَرَّرَ الْعَوْدُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ، بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِالذَّنْبِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ التَّوْبَةِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ: إنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ كَوْنَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ تَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ مَالِيَّةٍ لِفَقْرِهِ أَوْ شُحِّهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ، وَكَوْنَهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْغَرْغَرَةِ أَوْ الِاضْطِرَارِ بِظُهُورِ الْآيَاتِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ: التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ: إنَّ سُقُوطَ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ مَظْنُونٌ لَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَسُقُوطُ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ مَعَ النَّدَمِ مَقْطُوعٌ بِهِ وَتَائِبٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ: وَلَيْسَ إسْلَامُ الْكَافِرِ تَوْبَةً مِنْ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا تَوْبَتُهُ نَدَمُهُ عَلَى كُفْرِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيمَانُهُ بِلَا نَدَمٍ فَيَجِبُ مُقَارَنَةُ الْإِيمَانِ لِلنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ ا هـ. وَإِنَّمَا كَانَ تَوْبَةُ الْكَافِرِ مَقْطُوعًا بِهَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُجَامِعُ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةُ قَدْ تُجَامِعُ التَّوْبَةَ.
|